سيف القدس ومعادلات المقاومة

 


بقلم: هيثم أبو الغزلان

لقد أعادت معركة "سيف القدس" الصراع إلى مربّعه الأول، إنّه صراع على الوجود.. وبين مشروعين.. على فلسطين التاريخية كلّها.. فهو صراع على الجغرافيا، والتاريخ، والمستقبل، والحضارة.. ومعركة "سيف القدس" هي جولة في سياق الصراع الممتد منذ أكثر من قرن من الزمان، ومُراكَمَة على كل ما مضى من هبّات وانتفاضات، من نضال وكفاح وجهاد لتضع هذه الجولة من الصراع الكيان الصهيوني في "مأزق تاريخي"، ولتعمّق أزمته الوجودية، وتزيد من التغيّرات والتحديات التي تستدعي التوقّف عندها للتساؤل عن مستقبل هذا الكيان، وعن احتمالات استمراريّته، والمدى الزمني لذلك..

في هذا الإطار لم يعد طرحُ القضاءِ على الدولة العبرية عسكرياً وباستخدام أقصى درجات القوة والعنف، أمراً مستحيلاً، بل هو أقرب إلى الواقعية. هذا الخيار الذي يمكن أن يستتبعه تدخُّل عسكري أمريكي وغربي ـ كما طرح الكاتب الفلسطيني سميح حمودة ـ، للدفاع عن "إسرائيل" التي من الممكن أن تستخدم السلاح النووي وأسلحة الدمار الشامل الأخرى، مع ما سيلحقه من حجم دمار في المنطقة. ومهما بدا لنا الآن من خطاب أمريكي وغربي داعم للكيان الصهيوني، إلا أن ذلك بفعل قوة المقاومة وتأثيراتها المتزايدة، وضعف الكيان، سيكون عامل بدء في تشكيل وعي جديد لدى الأمريكي والغرب عموماً، سيدفعهم بفعل مصالحهم، إلى التخلّي عن هذا الكيان. فقد تخلّى الغرب عن أنظمة حقّقت له مصالحه لعقود كنظام الشاه، ومن غير المستبعد أن يتخلّى الغرب نفسه عن الكيان الصهيوني حين يصبح عبئاً زائداً عليه.

لقد قام المشروع الصهيوني على ركائز: هجرة اليهود، وتهيئة الظروف السياسية لطرد ما أمكن من العرب الفلسطينيين، وإقامة المستوطنات لتغيير الجغرافيا والديمغرافيا لصالح المشروع الصهيوني. وكان ركيزة ذلك تهويد الأرض عبر السيطرة عليها بشتّى الطرق والوسائل.. والقدس كانت وستبقى مركز التهويد، وعلى رأس ذلك اعتبارها "العاصمة الأبدية لإسرائيل"، من خلال حسم "السيادة الإسرائيلية" الكاملة عليها. وهذا يُعزّز الصراع الوجودي على الأرض الذي يمكن اختصاره من جانب العدو الصهيوني في "أرض أكثر، عرب أقل"..

وإذا كانت القدس بالنسبة للمشروع الصهيوني، هي مركز التهويد؛ فإنّها مركز المشروع الإسلامي المعاصر، الذي يربط الأرض بالسماء، ونقطة التقاء المادة بالمطلق، ما يجعلها بالنسبة للفلسطينيين والعرب والمسلمين، نقطة جذبٍ وتوحيدٍ وعامل طردٍ مستمرٍ للمشاريع الأخرى التي تستهدفها، وتستهدف ما حولها.

ولهذا فإننا نرى أن معركة "سيف القدس"، التي تفجّرت دفاعاً عن القدس وأهلها، تكتنز في ذاتها عوامل قوتها، عبر اتخاذ المقاومة لها عنواناً في الدفاع عن القدس، وتوحيد الفلسطينيين، وإعادة ترتيب الأولويات الفلسطينية عبر خلق "معادلة القدس"، وإظهار المقاومة للقوة والبأس الشديدَيْن، وعبر قيادة المعركة بقوة واقتدار وقدرة على التحكم والسيطرة، وضمن بيئةٍ مقاوِمةٍ مستعدةٍ للتضحيةِ والفداء، والقدرةِ على التحكُّم ببداية المعركة ونهايتها، والحصولِ على "صورة النصر" منذ بدايات قصف القدس المحتلة، واستهداف آلية صهيونية كانت تُقِلُّ عدداً من القادة الأمنيّين الصهاينة، بصاروخ موجّه "كورنيت".. وهذا فرض وللمرة الأولى - كما يقول الصحفي باراك رابيد -، على الرئيس الأمريكي جو بايدن، وعلى عدد من المسؤولين في الإدارة الأمريكية، استخدام مصطلح وقف إطلاق النار في تصريحات علنية حول القتال مع غزة. وهذا يعكس حقيقة ما حصل على أرض الواقع، فإن صحيفة (هآرتس) اعتبرت ما قالته القيادة العسكرية والسياسية بأنّها "تبجّحات"، ووصفت الهجمات "الإسرائيليّة" بأنّها "عديمة الجدوى".. وذكرت الصحفية (عميرة هاس) أن الجيش (الصهيوني) يعتبر البيوت السكنية أهدافاً عسكرية.. وهذا يعني أن تبجّح الجيش وقيادته بامتلاك بنك أهداف هي ادّعاءات ثبت بالملموس عدم صحتها، والدليل على ذلك استهداف الأبراج السكنية، قبل أن تقوم المقاومة بتعديل الميزان، وتضع معادلة استهداف الأبراج السكنية يُقابله استهداف تل أبيب. وطرح أمين عام "حزب الله" السيد حسن نصر الله، معادلة جديدة "القدس مقابل حرب إقليمية"، كما طرح أمين عام "حركة الجهاد الإسلامي في فلسطين" زياد النخالة، معادلة جديدة أنه في حال قيام "إسرائيل" باغتيال أي عنصر أو قائد، فإن المقاومة سترد وبشكل فوري بقصف تل أبيب.

إن النصر الذي حققته المقاومة الفلسطينية، ينطلق من قوله تعالى: ﴿كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإذْنِ اللَّهِ﴾، وأن موازين القوى لا يمكن تعديلها إلا عبر مقاومة مستمرة منطلقة من ﴿وَٱذْكُرُوٓاْ إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ فِي ٱلْأَرْضِ تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ ٱلنَّاسُ..﴾، إلى ﴿فَـَٔاوَىٰكُمْ وَأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ..﴾..

لقد ظهر ذلك جلياً من خلال إصرار المقاومة على مواصلة جهادها وقتالها، ما أفقد العدو وقادته التوازن، وتمظهر ذلك من خلال استهداف المدنيين وإصرار المقاومة على الرد، وفق رؤية محددة وواضحة، وإمكانيات أعدّتها مسبقاً، وأعلنت عن بعضها (صاروخ القاسم - نسبةً إلى الجنرال قاسم سليماني)، وأيضاً من خلال رجال قادرين على الثبات والصمود والانتصار، وبيئة شعبية.. بينما ظهر في جانب العدو منع الحكومة للمستوطنين من اقتحام الأقصى، وتزايد المظاهرات الصهيونية للمطالبة بوقف الحرب.

لقد عدّد الجنرال الصهيوني "آهارون ليبران"، في مقال له في صحيفة "إسرائيل اليوم" الفشل الذي لحق بكيانه، فأشار إلى أن سلاح الجو فشل في منع إطلاق (4300) صاروخ وقذيفة، ولم يستطع دفع المقاومة الفلسطينية إلى طلب وقف إطلاق النار. ويعتبر ليبران أن الضربات الجوية وحدها لا يمكنها تحقيق أهداف منع إطلاق الصواريخ، وجعل المقاومة تطلب وقف إطلاق النار، أو التسبّب في خنق إستراتيجي يُمكن أن يؤدّي إلى نتائج حاسمة. وكتبت صحيفة "هآرتس" أن الرأي العام الإسرائيلي يرى أنّ إسرائيل قد هُزمت في هذه المعركة. ويعتبر رئيس الوكالة اليهودية وسفير "إسرائيل" السابق في واشنطن "سالي مريدور"، في مقال له في صحيفة "يديعوت" أنّ (المقاومة الفلسطينية) حقّقت خلال جولة التصعيد أربعة إنجازات هائلة، هي: توحيد الجبهات ضد "إسرائيل"، لاسيما المواجهات التي تفجّرت في مدن وبلدات (عرب الداخل). واستطاعت (المقاومة) تقديم نفسها مدافعة عن القدس وحرم المسجد الأقصى في نظر كل عربي ومسلم في العالم. واستطاعت تعزيز مكانة (المقاومة) على الصعيد الفلسطيني على حساب السلطة الفلسطينية. كما أنّها كشفت عن نقاط ضعف القبة الحديدية، في مواجهة وابل الصواريخ التي أُطلقت من غزة. ويحاول الصحفي "تل ريف رام" في صحيفة "معاريف" أن يُوجِد إنجازات لجيش الاحتلال، فيتحدث عن "انجازات هامة على الأرض أساسها قصف شبكة الأنفاق في مترو غزة"... لكن "روعي شارون" المحرر العسكري في "أخبار كان" يتساءل "إذا تم تدمير 100 كم من الأنفاق التحت أرضية حقاً؛ عندئذ سنحتاج لعالم جيولوجيا ليشرح لنا كيف أن أرض القطاع الذي تبلغ مساحته 365 كم مربع لم تنهر كلّها". ووصف "ألوف بن" في مقال له في "هآرتس" عملية (حارس الأسوار / سيف القدس) بأنها "الأكثر فشلاً والزائدة في تاريخ إسرائيل"، وكتب بن "في غزة تظهر مثل الحرب الحدودية الأكثر فشلاً والأقل ضرورة بالنسبة لإسرائيل، حتى في المنافسة الصعبة في دوري الحروب الهامة التي تشارك فيها حرب لبنان الثانية وعملية "الرصاص المصبوب" و"عمود الدخان" و"الجرف الصامد" في غزة. نحن شهود على فشل عسكريٍّ وسياسيٍّ خطيرٍ كشَفَ عيوباً في استعداد الجيش وأدائه، وفي قيادة حكومة مشوشة وعاجزة. وبدلاً من تبديد الوقت على مطاردةٍ لا جدوى منها خلف "صورة انتصار" مع التسبُّب بقتلٍ ودمارٍ في غزّة وتشويشِ الحياة في إسرائيل، يجب وقف الحرب"..

وأكّد "نداف شرغاي" في موقع "إسرائيل اليوم" أن "استجابة إسرائيل لمطالب (المقاومة) في المسجد الأقصى وحيّ الشيخ جراح ليست شائعات، فعلى الأرض تشكّل واقع جديد يُبيّن أنّنا استجبنا بالفعل لهذه المطالب". وفي هذا الإطار، يورد الصحفي "شموئيل روزنر" في مقال له في صحيفة "معاريف"، بعض الأمور التي يرى "الجمهور الإسرائيلي" أو وسائل الإعلام المُتشكّكة بما تدّعي الحكومة أنّها حقّقته من تدمير لأنفاق غزة، فيجيب روزنر: "أنّ هذا ليس شيئاً نراه بأم أعيننا". ويضيف روزنر: "قلتم إن حماس تتوسّل لوقف إطلاق النار؟ ليس هناك دليل علني على شيء من هذا القبيل. وقلتم إنّ حماس تمّ ردعها؟ ستُخْبِرُنا الأيام ما إذا كان قد تمَّ ردعُها وإلى أي مدى. أما "جدعون ساعر" فيرى أن "وقف إطلاق النار بدون فرض قيود على حماس واستعادة الجنود، فإن هذا سيكون فشلاً سياسياً سندفع ثمنه بشكل مضاعف في المستقبل"..

إن المقاومة وحّدت الشعب الفلسطيني، وأعادت ترتيب أولوياته، ما يضع المسؤولية الكبرى على الفصائل الفلسطينية والجماهير الفلسطينية من أجل حماية هذه الوحدة، وحماية خيار المقاومة عبر تصعيد المواجهة، ورفع سقف المطالب الفلسطينية لتشمل فلسطين التاريخية كلها. والعمل على استغلال كل المعضلات التي تواجهنا كفلسطينيين عبر تصعيد المواجهات؛ فإذا كان الاحتلال يحاول منع التدهور، فإن الفلسطينيين عليهم استغلال هذا الأمر، ومنعه من تحقيق أهدافه. يقول جيلي كوهين: "مُعضلة تُواجهها إسرائيل الآن هي كيف تمنع التّدهور الاقتصادي في غزة الذي من شأنه أن يُؤدّي إلى مواجهة عسكرية.. وفي الوقت نفسه: كيف يتمُّ وفقَ المصلحةِ الإسرائيلية إضعاف (المقاومة)".

وما بعد معركة "سيف القدس"، قد رفع مستوى تهديد غزة في سلّم التهديدات التي باتت تواجه "الأمن الإسرائيلي"؛ إذ لم يعد دقيقاً توصيف القطاع بالتّوصيف التّقليدي: "الأقل تهديداً، والأكثر قابلية للانفجار". وهذا يعني أن التهديد من غزّة لم يعد محصوراً بها، بل أصبح متصلاً وممتدّاً إلى خارجها، أي بما يتعدّى فلسطين إلى خارجها. وهذا يعني أنّ تفعيل سلاحِ غزة لم يعد مرتبطاً بتحسينات خدماتية، أو تخفيفٍ للحصار، بل أصبح مرتبطاً بمعادلةِ القدس التي فجّرتِ الوضعَ في فلسطين كلِّها.. والمحاولات الإسرائيلية التي تعمل على منع ربط الجبهة الجنوبية (غزة)، بالجبهة الشمالية (لبنان)، مستمرةٌ، وهذا ما ينعكس قلقاً (إسرائيلياً)، وسعياً واضحاً لمنع هذا الربط، عبر تفعيل معادلة الحصار مقابل الغذاء، وإعادة تفعيل دور السلطة الفلسطينية. ولهذا يعمل الإسرائيليون على التركيز على (الشمال)، الذي يعتبر رئيس مجلس الأمن القومي السابق "يعقوب عميدرور"، أن الحاجة تتطلّب التركيز على الشمال بكل طاقتنا، وهذا يترجم من خلال الرغبة "الإسرائيلية" في منع حصول هذا الربط، عبر تقييد الإجراءات التي من شأنها إعادة تفجّر الأوضاع من جديد.

إن ما يعمل الكيان الصهيوني على منعه، تعمل المقاومة على تفجيره.. والأيّام تثبت ذلك.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق