سيف القدس يدق على الأبواب

 


مروان عبد العال


القدس تدق على أبوابها الـ7 المفتوحة، كنوافذ إلى العالم؛ كونها تتوزع على سور المدينة القديم الذي بني في العهد الكنعاني؛ تدق على الأبواب، لأن المقاومة؛ أجدى اشكال البقاء؛ تدق الأبواب، كصرخة الـ(لا) في وجه الظلم والطغيان، لأنها تؤمن بإنها على الحق؛ تمسك بمعتقداتها سلاح النجاة؛ مقاومتها وعي جمعي وذاكرة جماعية إنسانية؛ مستمرة؛ أفقية وعامودية؛ يتضاعف كل شيء خالد فيها، أن تمارس شهوة البقاء وتحدي الوجود وجمالية المقاومة التي تليق بروح فلسطين. عندما تدق على أبوابها المفتوحة على العمق التاريخي للصراع، لكنها الأبواب الموصدة في وجه المعتدي على هويتها وشخصيتها وروحها وناسها وطمس ذاكرتها، وهي اختبار الثورات والنضال والأفكار، وكل هوية دونها ناقصة.

تدق على (باب العامود)، ليرتدي قميصاً أبيضاً، في مدينة هي سر الله فينا، هي قداسة كل مرابط فيها له شرف مجاورة مقدساتها، ولكنها ملك أمة واحدة ممتدة في مساحة عابرة بين الإسراء والمعراج؛ هنا باب العامود؛ بمنتصف الحائط الشمالي للسور، ويعود تاريخه لعهد سليمان القانوني، وعند مدخل الأقصى؛ يحفر نفقاً في عمق التاريخ نحو طريق الجلجلة؛ يتسلق جبل المكبر وقبة الصخرة؛ القدس فيها؛ تقاطع طرق بين الارض والسماء. بين المسافات في التاريخ والذاكرة؛ حين ينهض المعراج مرة ثانية، ويعاد صلب السيد المسيح والواقع المجبول بالدم المشع من نبعه الاول جسده الذي صار خبزاً أبدياً لكل فدائي يشهر في وجه الطاغوت قلبه وحلمه وسلاحه، وما الحُسين إلا إحدى محطاتها الحسنى على وعد اللقاء معها حقاً وحباً وعدلاً.

تدق على (باب الساهرة)، لأنّها المدينة اليقظة التي لا ينام فيها الزمان، وكأن التاريخ فيها قد بدأ للتو: لن يغلق باب المحراب ولا باب المدينة ولا ممراً جغرافياً للعابرين، لأنها القدس باب التاريخ والذاكرة متمازجان بواقع حسّي إلى درجته القصوى، هي ليست مساحة محدودة، في الزمان والمكان، بل حول المكان كله وفي الزمان كله وعلى المسافة الممتدة على طريق الخليل وصولاً الى الذي صان المثوى وامتلك أمانة المساحة التي لا يملك أحد قدرة تحقيقها في الزمان الطازج أبداً والمكان المقدس دوماً؛ العام جداً، ولكن الخاص جداً في آن معاً.

تدق على (باب الخليل) عند المدخل الغربي للبلدة القديمة، لتزيل آثار القدم الهمجية التي مرت أرصفتها، وانكفأت خائبة؛ تسير خلف الأبواب إلى صليب الآلام في طريق الجلجلة بعد وقبل الميلاد؛ يرقد فيها التاريخ وينبض بحقيقتها من ميلادها إلى نهوضها الأزلي بعد أن تم تدميرها عبر التاريخ على يد الغزاة أكثر من 18 مرة، وتصل إلى أبواب "حي الشيخ جراح"؛ فصل من فصول التطهير العرقي الواسع للفلسطينيين في هذا الحي، وفي حارات القدس القديمة بشكل عام، والهدف هو إنهاء وجود الأحياء العربية، لتطبيق خطة فيما يسمى بالحوض المقدس، وخطة شاليم، وخطة وادي السيليكون في واد الجوز التي من المخطط تحويل المنطقة فيها إلى “حديقة قومية”، وبالمناسبة الشيخ جراح سمي بهذا الاسم نسبة لطبيب صلاح الدين، واسمه الشيخ حسام الدين بن شرف الدين عيسى "الجرّاح" قبل 900 عام، ومن ثم تحول المكان إلى قرية فلسطينية ملاصقة لأسوار القدس؛ خطته أرض اكثر وتقليص الوجود الفلسطيني إلى أدنى مستوياته، حتى يتمكن من تحويل القدس إلى "مركز اليهودية في العالم"؛ عاصمة الدولة اليهودية أو عاصمة الاتحاد الإبراهيمي.

تدق على (باب المغاربة) على الحائط الجنوبي للسور، ويعتبر أصغر الأبواب السبعة، واتخذ اسمه من حي المغاربة الذين رابطوا هناك، منذ العام 1187 ميلادي. وعلى كل طريق آتٍ؛ بجياد الرهبة آتٍ وكوجه الله الغامر؛ تدق رؤوس أصحاب الألسنة السامة واللغة المتسخة من دعاة الخروج من التاريخ ومن ذاتهم ومن أمتهم. اتباع الدبلوماسية الروحية لاختراق روح الأمة قبل جسدها، يسيرون وراء سيدهم الذي يعدهم؛ بولادة مرحلة من الاستعمار الجديد للسيطرة على مستقبل المنطقة، والعبيد يهجسون بدعواتهم للذهاب إلى المستقبل، بل الخروج من التاريخ وبكلمة أدق الخروج من الذات وبتسريب العقارات والسمسرة والتسليم برواية الهيكل بالصمت الرسمي والترويج لهذيان سيدهم المستعمر والدنس والقبيح والعدواني.

تدق على (باب الأسباط) عند الحائط الشرقي، وسمي أيضاً باب القديس «إسطيفان»، وعنوان الأبعاد السامية والمكونات التأسيسية للأمة، تواجه من يحاول محوها او طمسها أو عبرنتها وهم أولئك الذين توارثوا تاريخاً؛ خلقوه من العدم بذاكرة مزيفة لما يسمى أرض الميعاد الممتدة من النيل إلى الفرات حسب الرواية التوراتية، وكما قال رد المفكر إدوارد سعيد: " فلسطين صراع على وجود يمكن تذكره. لا رواية مخترعة بلا ذاكرة". وسأفتحها الأبواب؛ يوم تعرضت على مرأى ومسمع العالم لعملية اغتيال؛ مبرمج للرموز الدينية وطمس التاريخ لتزييف الشرعية وبناء ذاكرة زائفة طالت مركزية القدس.

مورست العنصرية المطلقة للاحتلال؛ حسب وصف "ميشيل فوكو" ليس باحتلال الأرض فقط، بل طمس التاريخ أيضاً والذاكرة واختراع شرعية دينية زائفة في معادلة لسرقة هوية المكان واغتيال الحقيقة والحق والعدالة، هذا سلوك التقاطع الأميركي/الصهيوني ذات الطبيعة الاحلالية ومحركها الإبادة الثقافية؛ نجده يمارس ذات السلوك كأنما يتعاطى مع أمة بلا ذاكرة، لن تقف إرادتها بين استلاب وحرية، بين النهضة أو السقوط، بين التقدم والتخلف، بين ابتسار التاريخ أو استمراريته.

ستدق على (باب النبي داوود) الذي أنشئ بعهد سليمان القانوني، ويقال إنه كان يعد ليكون شبيهاً بباب العامود ولسرعة الإنشاء ظهر بما هو عليه، لن يقفل باب مدينتنا؛ فالهوية والمكانة لا تحميها إضاعة الوقت، بل بالانتقال إلى استراتيجية؛ تقطع بشكل منهجي مع السياسة التفاوضية العقيمة، وبشروط استراتيجية لبناء الوحدة الوطنية والمؤسسة الوطنية الفاعلة والكفؤة والحديثة لتجديد هياكلها وأدائها ووظيفتها وفق استراتيجية مقاومة وطنية شاملة.

تدق على (باب الحديد) في الجانب الشمالي للسور، والذي فتح عام 1898م، خلال زيارة الإمبراطور الألماني (غليوم الثاني) للقدس، ولتهزم وجه القوّة، بالرد التاريخي، ولكن المشروط بالتمسك بالحق الذي لا يتجزأ أو يؤجل؛ الذاكرة لا يمكن أن تتجزأ والهوية، ثم الحقيقة التاريخية، أن القدس عربية فلسطينية، كما هي باريس فرنسية، لأن الهوية لا يمكن ابتسارها أو اختصارها إلى شرقية وغربية وقديمة وجديدة ويهودية ومسيحية وإسلامية والشريف وغير الشريف، هي عاصمة الحقيقة التاريخية التي تتكثف فيها طهارة الزمان والمكان والإنسان معاً؛ فيها يكمن منطق الصراع وغايته الأسمى وطبيعته التي تتجلى في أبعاد شتى موحدة وعلى نحو عالي من الانسجام في الماهية الواحدة؛ متداخلة بألوان قوس قزح.

بقبضة فلسطينية واحدة وسيف القدس المشرع؛ ندق على الأبواب سنفتحها الأبواب ولتعيد بهاء القدس؛ نحيي كل القدس التي يسكنها كل التاريخ وعلى مدى الصراع، لأنها تستحق يومها العظيم، كل فعل مقاوم؛ من غزة تزرع الروح وترد الأمل ويخرج التاريخ دفعة واحدة، وفي لحظة واحدة، وكأنه في بواكيره الأولى، عند قمة الكرمل وأعالي الجرمق إلى سهول مرج ابن عامر والسر يكمن في القدس، هكذا أبدعت الانتفاضات والهبات والوقفات الكفاحية والبطولية، ويتجدد الصراع كلما مُسّ هذا المقدس والتاريخي.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق