القضاء اللبناني قضى على نفسه.. من زمان

 

نصري الصايغ

لندخل في صلب الموضوع مباشرة. فلنتوقف عن تسمية الأشياء بغير أسمائها والقضايا بغير معانيها. لغتنا تكذب بشكل تلقائي. علينا أن نتجرأ بحذف حاسم وبصوت مرتفع وبتجرؤ حاد. كفى. فلنطرق لغتنا اللبنانية، ثم العربية، بمطرقة قاسية وطاحنة. كفى مرة أخرى.

ندخل في صلب الموضوع. فلنحذف من لغتنا مفردات سيئة الاستعمال. فليكن الظلم رديفاً للعدالة. العدالة لم تزرنا مرة. استضعفنا الظلم وسميناه عدالة. منذ أكثر من مئة عام، ولبنان مضاد للعدالة. لم نبرهن أبداً على أنها دخلت قصور العدل أو دواوين المساءلة. فلنتوقف أيضاً عن التحدث والمطالبة بالمساءلة. هذا معيب بحق الذكاء والبصيرة.

المساءلة لم تجد طريقها إلينا. منعناها. نفينا عنا المحاسبة، إننا لا نشبه السؤال ولا نعرف الامساك بالمطرقة. ممنوع دخول العدل الأراضي اللبنانية. إنها محفوظة في مكان معتم. لا تتعبوا أنفسكم.  إن بحثتم لن تجدوها. لا في دولة أو حكومة أو مؤسسات أو مرجعيات دينية وسياسية ومالية. هذا البلد على صداقة متينة مع الزعبرة والاحتيال والنفاق.

هل هذا ما أريد أن أقوله؟

عذراً. لم أكن أقصد هذه المقدمة. قلبي مفطور ومدمى على الرابع من آب. لم أنسَ. لا أنسى. كيف أنسى. جريمة الجرائم. أفدح الفدائح. بيروت عاصمة الجراح والقتلى والدمار. حتى الآن، لم نعرف حقاً، ولن نعرف. لذا، من حق كل قطيع أن يسمي “المجرمين”، ولكن من دون عقاب.

أيضاً، ليس هذا ما أريد أن أكتبه.

عذراً. إنما، ولأننا فتحنا أبواب الممتنع، فلنكمل سيرنا الواعي والمستيقظ والمستفَز (بفتح الفاء)، طريقنا إلى المفردات المفقودة. وعليها إذا، فلنكف عن المطالبة بدولة. لبنان ليس دولة ولا مشروع دولة. إنه مكان إقامة الشاذين سياسيا وأخلاقيا، أبناء الطوائفيات التي أقامت عروشها في مقامات السلطة وأقبيتها. لا دولة في لبنان. هي ملطش سياسي. ولا دستور. الدستور ليس حبراً على ورق. إنه كذلك هنا. لم يجد الدستور من ينقذه أو من يحرسه. حرام، يكاد يمحي أو يذوب أو يصاب بالرمد والعمى. إياكم وترداد دولة القانون. حذار. هذا خطأ جسيم. نحن مكان لملتقى عصابات متنافسة في الارتكاب.

علينا تنقية لغتنا من الديموقراطية. رجاء استعيدوا هذه القيمة العليا. هذا فوق طاقة لبنان. أقنعوا أنفسهم بفتوى فاسدة وبلقاء وعاهرة: الديموقراطية التوافقية. وما لنا، هو لنا، وما لكم هو لنا ولكم… احذروا التغيير. هدا من تاسع المستحيلات لبنان تتغير فيه القشور. اللب العفن هو الذي يبعث رسله إلى البرلمان. أما لفظة المؤسسات فلا تقربوها سوق ماريكا أنقى منه وأكثر إفادة والتذاذا. المؤسسات هي عقر دار الآفات والارتكابات والجرائم… أما عن الحكم فلا تسأل. رئاسة الجمهورية كاريكاتور سيء الخطوط. كل رئيس “موديلو شكل”. الرئاسة مصابة بالرئيس والرؤساء مصابون بالرئاسة. فالصو. الخواء ذو ضجيج كلامي. مطحنة بلا طحين. لا تتوقعوا حكومة أو حكومات فقط ركزوا على الأموال والصفقات وضرب الكم والسرقة المفضوحة. هؤلاء، عباقرة لبنان. النواب نماذج لخدم الراعي الذي يسوق قطعانه بالأمر، والترغيب والترهيب والمكافآت. النائب، كلما اتضع كلما انتفخ سيده، وصار لا مفر منه. إن غاب، غربت شمس البلاد… حافظوا على الأسوأ دائماً السيء مغفورة له خطاياه الآثمة.

هل هذا ما كنت أريد قوله؟ طبعاً لا. لكن الحالة اللبنانية جذابة. لكنني سأتوقف عند هذا الحد. لن آتي على معاناة اللبنانيين. إنما اسمحوا لي، بأن أهين مجموعات لبنانية، قررت أن تسير على ركبتيها وتزحف على جباهها. تباً. نصف شعبنا بلا جبهات عالية. إنهم يشبهون أنصاف نعل الأحذية. هل هذه إهانات؟ طبعا لا. هذا ترسيم لواقع قائم.

فلنقفل الكلام على ما تبقى. ولندخل في صلب الموضوع. ولو متأخرا كثيراً. الموضوع هو تفجير أو إنفجار المرفأ، والعسّ القضائي، والنفاق السياسي، والتوظيف الطائفي، والموضوع، هو الهروب الكبير من الفضيحة الكبرى والجريمة العظمى.

ماذا أريد أن أقول لهؤلاء؟ لا شيء عندي أقدمه للسادة القضاة، للأهالي المظلومين، للشهداء الأحياء، للأحياء شهادة ونبلاً. عندي حكاية أرويها، تعود إلى الأزمنة الإغريقية. يا إلهي كم كانوا بشرا؟ كم كانوا عدلا؟ كم كانوا عقوبة؟ كم كانوا جرأة. كم كانوا يرون السكان بشراً وأحراراً… نحن لسنا كذلك، إن حكامنا الحقيرين جداً، ينظرون إلى أبريائنا نظرة احتقار… ملاحظة، مسموح أن تتوقف عن القراءة وتتلو شتائمك بصوت مرتفع، ومراراً. خذ نفساً عميقاً وارفع صوتك يا أخي..

لندخل أخيراً في صلب الموضوع.

الارتكاب في لبنان خاضع لعفو سري دائم. مئات آلاف القتلى في الحرب اللبنانية تمت خيانتهم. عفو رسمي مبرم عن كل القتلة والمجرمين، مع جائزة تنصيبهم وزراء ونواباً وزعماء. لبنان مدرسة في العفو عن القتلة. مئات الآلاف هُجّروا ولم يعودوا. مبروك. لبنان يحتفل بالمصالحات التي تتم من فوق. انظروا إليهم، كأنهم شركاء في الفضيلة والحكمة. عيب. إنهم ملوثون. الدماء لا تمحى من الذاكرة.

إنه العفو. لبنان يعفو عن المرتكبين. ماذا عن تفجير أو إنفجار الرابع من آب. القضاء ذو سمعة سيئة. لم يعاقب مرتكباً. لا يقوى إلا على الغلابى. لا نصدق أن العدالة اللبنانية ستستيقظ اليوم أو غدا، ونقبض على القتلة، بسبب الإهمال أو بأسباب جليلة. لبنان فريد عصور الأرض جميعاً.

حدث ذات حقبة إغريقية أن مارست السلطة سياسة قضائية مثالية. لم يتورع القضاة من محاكمة المنتصرين الأبطال في المعركة، لأنهم أهملوا واجب إنقاذ رفاقهم في الحرب… نعثر في كتابات زينوفون على ما يلي، بتاريخ 406 قبل الميلاد.

أولا:      انخرط المواطنون الإغريق في صنع القرار الإتهامي وصياغة العقوبات

ثانيا:     السبب في إنزال العقوبة، هو انتصار بحري أثيني شهير أفضى إلى موت عدد كبير من بحارتهم، في معركة منتصرة.

ثالثاً:      اتهم الجنرالات المنتصرون والمسؤولون عن الحملة بترك رجال في قوارب محطمة عرضة للغرق.

هناك، في إغريقيا وطبعاً ليس في لبنان، أقدم الشعب على خلع الجنرالات بإستثناء كونون، من مناصبهم. خاف إثنان من الجنرالات العقوبة. فهربا ولم يعودا إلى أثينا. وهما جنرالان منتصران. الجنرالات الستة الآخرون أُخضعوا للمحاكمة. أدلى الجنرالات بحججهم. فهم حاولوا إنقاذ الآخرين، لكن الإعصار حرمهم هذا الإنجاز. هم حاولوا والعاصفة العاتية صدت جهودهم. هم غير مسؤولين عن موتهم. لن يقتنع القائد تيموكراتيس واقترح نقل الجنرالات إلى السجن، ثم عرضهم على الجمعية العامة، فوافقت الجمعية على الإعتقالات. وانعقدت المحكمة للاستماع. يريد الشعب تفسيراً لعدم قيامهم بإنقاذ الرجال الذين تحطمت سفنهم. دافع كل جنرال عن نفسه. قالوا: “إنهم أوكلوا إنقاذ السفن المحطمة إلى بعض القباطنة، وهم جنرالات خدموا في ما مضى… الإخفاق في عملية الإنقاذ ليس من مسؤوليتهم بل من مسؤولية أولئك الذين كلفوا بالمهمة…” ثم أردف الجنرالات بدليل براءة: ” إننا نزعم أن عنف الإعصار هو الذي جعل الإنقاذ مستحيلاً”. وقدموا شهوداً ليؤكدوا على عنف الإعصار.

عدد كبير من المواطنين هبوا واقفين عارضين إقالتهم. إلا أن المجلس اقترح على أن يصار الإتفاق أولا، على نوع المحاكمة التي تنظر في القضية.

من هم المتهمون؟ أسماؤهم تدل على مكانتهم: بريكليس (ابن بريكليس الشهير)، ديوميدون، لبسباس، أريسوكراتيس، تراسيليوس وايراسينيدس. وهؤلاء ليسوا فقط قادة، بل عمالقة السياسة والقتال. وفي مراتب مرموقة. ومع ذلك، الحق يعلو ولا يُعلى عليه. سيخضعون للمحاكمة. تلاقى آباء القتلى والمفقودين وأسرهم، واقترحوا أن يحضر الرجال، أقارب القتلى ومن حقهم الإستماع وإبداء الرأي. الشعب مصدر السلطات. هاجموا الجنرالات وانقسمت الآراء. فاقترح كالكسينوس اللجوء إلى عملية اقتراع. كل ما يتعين على الأثينيين فعله، لا يصدر كونه دعوة إلى الإقتراع عبر تخصيص جرتين (صندوقين) لكل دائرة، وتعيين مباشر يدعو أولئك الذين يرون الجنرالات مذنبين، لأنهم أخفقوا في إنقاذ زملائهم القادة الذين حققوا الإنتصار، وضع أصواتهم في الجرة، والذين يرون العكس إلى وضع أصواتهم في الجرة الثانية، إذا ما تقرر أنهم مذنبون يجب إعدامهم وتسليم جثثهم إلى مجلس منتخب بالقرعة.

تناوب الجنرالات والشهود. منهم من إتهم ومنهم من دافع، ووضع المسؤولية على عنف الأمواج العاتية. وقد وقف الدفاع عن الجنرالات خطيب مشهور (يوديبتوليموس) وألقى خطابا مقنعاً، ولكن…

دافع الجنرالات عن أنفسهم في محاكمة مستقلة. اقترح أحد الحكماء إعطاء فرصة للدفاع وفرصة للإتهام، بمحاكمة مستقلة منفصلة لكل واحد منهم. الذين أخطأوا سيعاقبون أشد العقاب، والأبرياء سيتم إطلاق سراحهم، بقرار من الشعب. قال الحكيم: “يا رجال أثينا، إن لم يخطئوا لن يعدموا. ستبقون حريصين على مراعاة إملاءات الورع وشروط قسمكم حين توفرون لهم محاكمة قانونية.,”

هناك من حاول تضليل الشعب. عوقبوا عقابا شديداً. جرى التصويت على الجنرالات الثمانية الذين شاركوا في المعركة. كان التصويت لغير صالحهم. والستة الموجودون في أثينا أعدموا… ورفعت دعوى ضد أربعة آخرين وتم احتجازهم، ثم هربوا قبل أن يحاكموا. فيما بعد، عاد كاليكسينوس إلى المدينة، ولكن الجميع نبذوه، وقد مات جوعاً، لأنه حاول أن ينحاز إلى فريق ضد فريق.

هذه هي أثينا. الشعب مصدر السلطات. الشعب مصدر القرارات. الشعب يوافق على الأحكام أو لا يوافق. يقترع. القضاء يصفي وينقب ويأخذ القرارات علنا. إن أخطأ القضاء عوقب بالنفي.

ماذا عندنا؟

إلى قضائنا اللبناني سؤال بسيط: هل أنت قضاء عن جد. إن كنت، فدلنا عليك. لم نجدك بعد. منذ قرن ولم نلمس أي حراك. أنت أيها القضاء، قوي على الضعفاء البائسين، وغفور رحيم للمرتكبين. لكم آذان تسمع حفيف النمل، ولا تصغون إلى أصوات الذين حرموا أبناءهم في إنفجار بيروت…

ماذا بعد؟

 لا سؤال إلا لواحد أحد:

أيها اليأس، هل من أمل؟

دمعت عيناه ومضى.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق